النزاهة سلوك مجتمعي
امجد كاظم الدهامات *
1. كان أجدادي البدو القدماء يعتزون باللصوص منهم (الحرامية) ويطلقون على الواحد منهم لقب (العجيد) تفاخراً به !!!
2. وفي العرف المقدس لأجدادي البدو القدماء مَن يخالف القانون أو يتشاجر مع شرطي أو يتجاوز الإشارة الضوئية هو (أخو أخيته) !!!
3. وكان أجدادي البدو القدماء يغيرون (يسطون) على القبائل الأخرى ويتفاخرون بمن يسرق أكثر من غيره ويسلب أكثر من غيره ويسمونه (أخو أخيته) أيضاً !!!
4. وكان أجدادي البدو القدماء، والحق يُقال، يحرصون على تناول طعام السحور قبل انطلاق الغارة في حال كان وقتها في شهر رمضان المبارك !!! فهم ملتزمون بطقوسهم الدينية.
5. وقد تعلم أجدادي البدو القدماء، رحمهم الله، أصول دينهم وفروعه على يد بعض من يدعي القداسة وهو لا يفقه من الدين شيء، أولئك الجهلة الذين رسّخوا في أذهان أجدادي إن مجرد التلفظ ببعض الكلمات أو القيام ببعض الأفعال البسيطة، حتى لو كانت شكلية، ستكون نتيجتها السحرية الخلود في الجنة !!! لقد انشغل أجدادي المساكين بحساب عدد قصورهم في الدار الآخرة وأعداد الحور العين الممنوحة لهم بغير حساب، ولا تنسوا إن أجدادي مزواجين وضعيفين جداً أمام الحور العين الجميلات !!!!
6. إن أجدادي البدو القدماء بعد أن ضمنوا الجنة لتمتمتهم ببعض الكلمات الخفيفة باللسان وتمثيلهم للبكاء وقيامهم بمسيرات راجلة لم يعد أمامهم أي مانع لان يستأنفوا عملهم المحبب بالغارة على الآخرين ولكن في العصر الحديث، وكل شيء يتطور طبعاً بما ذلك عملية (التسليب)، أصبح الآخرون هم الدولة وشعبها من المواطنين الضعفاء، فما دام جدي قد ضمن الجنة فلماذا لايسرق ؟ ولماذا لا يأخذ الرشوة ؟ ولماذا لا يفسد إدارياً ؟ ولماذا لا يظلم عباد الله بعد أن ضمن رضى الله ؟ طبعاً لو جابهت أجدادي البسطاء بهذه الحقيقة سينكرونها بكل سذاجة ويقولون بأنهم لا يؤمنون بهذا الكلام، ولكني أقولها بكل صراحة: لن أصدقهم حتى لو اقسم أجدادي العظماء بأغلظ الإيمان.
7. لقد ترسّخ في أذهان أجدادي البدو القدماء، والسبب مدّعي القداسة دائماً، إن الدولة ظالمة وبالتالي فان أموالها من نوع مجهول المالك ومن الممكن الاستحواذ على تلك الأموال والتصرف بها بدون أي إحساس بتأنيب الضمير الذي دخل في غيبوبة بتأثير النص المقدس المزور، وهنا طرح جدي نفسه كمالك معلوم لأموال الدولة المجهولة، لقد انتهى الإشكال يا شيخنا الجليل فقد عرفنا المالك ... انه جدي العزيز.
8. عندما يسافر شخص عراقي إلى الخارج فإنه يتجنب رمي أعقاب السكائر والقناني الفارغة في الشارع الأمر الذي يمارسه بكل سهولة ويسر داخل العراق، السؤال: لماذا ؟ مع العلم إن الشخص نفسه والعمل ذاته، الجواب: إن المجتمع هنا يختلف عن المجتمع هناك.
9. سمعت مرة، ولحد الآن أتمنى أن يكون ما سمعته خطأ، إن أحدى المنظمات المحلية قدمت رشوة إلى منسق منظمة دولية لغرض الحصول على منحة مشروع لمكافحة الفساد المالي والإداري !!! ما أنا متأكد منه إن المنظمة حصلت على المشروع ولكم أن تتخيلوا التنفيذ !!!
10. اعرف مهندس في إحدى الدوائر لا يقبل أن يأخذ الرشوة أبداً، وكانت النتيجة إن كل من حوله ينظر له نظرة حزن وإشفاق وتعليق من كلمة واحدة: (خطية) !!!
11. كما تعلمون إن أشهر قانون في العراق هو: الأقربون أولى بالمعروف !!!
اعتقد، وعلى ضوء ما تقدم، إن احد أهم أسباب انتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري في العراق هو سيادة بقايا قيم وأعراف وتقاليد البداوة السيئة في المجتمع العراقي فرغم انتشار مظاهر التحضر والمدنية البراقة ورغم استخدامنا لأخر التطورات والاكتشافات العلمية، لكن لا يزال في داخلنا ذلك الرجل البدوي الشرقي المتخلف الذي يظهر بين الحين والأخر مذّكراً بوجوده القوي والطاغي على شخصية الفرد العراقي فمهما حاولنا التخلص من ذلك البدوي أو على الأقل إخفائه فلن نستطيع، لأنه مزروع في داخلنا، جزء من شخصيتنا، مترسخ فينا، جرب مرة وقم بعملية استفزاز لشخص ما يلبس آخر تقليعة من الثياب ويركب آخر موديل من السيارات ويستعمل احدث طراز موبايل، ماذا سيكون رد فعله ؟ سيكون الرد بدوي بامتياز: (ﮔوامة) و(حضّر عمامك) !!! انه بدوي تقليدي ولكنه يلبس ثياباً فاخرة بدلاً عن العباءة والعمامة ويركب السيارة بدلاً عن الجمل الأثير، الذي حصل هو تبديل بالشكل وبقى المضمون على حاله.
ما أريد قوله: إن انتشار قيم تمجد الأخطاء وترفع من شأن الفاسدين وتجعلهم قادة وزعماء يشجع بالتأكيد على استفحال هذه الظاهرة، فلا يزال المجتمع ينظر إلى الشخص الذي يتحايل على القانون وكأنه شخص شجاع وحاد الذكاء، وينظر إلى المرتشي وكأنه شاطر يحسن استغلال الفرص، والذي يحابي أقاربه ومعارفه بأنه (خوش ولد وما نسى أصله) !!!!
إن قيم مثل النزاهة، رفض الفساد، الشرف، الإخلاص في العمل، هي سلوك مجتمعي أولاً وأخيراً، قيم تترسخ في اللاشعور الجمعي لإفراد المجتمع وتصبح جزءاً من سلوكهم وثقافة عامة تتجسد في البيت والشارع والدائرة، فعندما ينظر المجتمع باحترام إلى المخلص ويساعده على الاستمرار بهذا النهج وينظر باحتقار إلى الفاسد ولا يقابله بنظرة تشجيع وافتخار، عندها فقط يمكن القضاء على الفساد.
خلال السنين الماضية، تحديداً من عام 2003 ولغاية الآن، تم صرف الكثير من الأموال عن طريق مؤسسات الدولة والمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية لمكافحة الفساد المالي والإداري وتم تنفيذ الكثير من المشاريع في هذا السبيل ولكن، كما يلاحظ الجميع، لم يتم القضاء بل حتى التقليل من ظاهرة الفساد، والسؤال الكبير هو: لماذا؟
إن سبب فشلنا في القضاء على هذا المرض هو طريقة العلاج رغم صحة ودقة التشخيص، فقد تم تنفيذ الكثير من الأنشطة مثل ورش العمل، ندوات، ملصقات جدارية، لوحات ضوئية، لافتات، كراسات، إعلانات تلفزيونية وإذاعية باهظة الكلفة، وغيرها، تشرح مخاطر الفساد وأثره السلبي على المجتمع وتدعو إلى تجنبه، إن هذه الفعاليات التقليدية لا يمكن أن تقضي على الفساد فالكل يعرف مخاطر الفساد ومساوئه، بل إن أفضل من يتحدث عن هذا الموضوع هم الفاسدون أنفسهم ولو تم تكليف واحد منهم بإلقاء محاضرة لأبدع فيها أيما إبداع !!!
إن أفضل طريقة للقضاء على ظاهرة الفساد الإداري والمالي هي تغيير ثقافة المجتمع، عن طريق إحلال قيم، أعراف، وتقاليد جديدة، بدلاً عن القديمة التي ذكرتها آنفاً، قيم تركز على أهمية العمل نفسه وليس طريقة ادئه، قيم تركز على المضمون وليس الشكل، قيم تجعل الفرد العراقي ينظر إلى الشخص الفاسد بازدراء واحتقار، قيم تعزل الفاسد عن المجتمع بحيث يتم التعامل معه كشخص منبوذ يحمل جراثيم معدية، في هذه الحالة فقط نستطيع القضاء على الفساد، اعرف، بل متأكد، إنها مهمة صعبة جداً لكني اعرف أيضاً إنها ليست مستحيلة، اعرف إنها تحتاج إلى الكثير من الجهد والمال والوقت، لكني اعرف أيضاً إنها ستوفر،بعد انجازها، كم اكبر من الجهد والمال والوقت، بل عن طريقها سنكسب ما هو أهم، سنكسب الإنسان.
* منسق المنظمات الإنسانية في مكتب محافظ ميسان
Aldhamat1@yahoo.com
امجد كاظم الدهامات *
1. كان أجدادي البدو القدماء يعتزون باللصوص منهم (الحرامية) ويطلقون على الواحد منهم لقب (العجيد) تفاخراً به !!!
2. وفي العرف المقدس لأجدادي البدو القدماء مَن يخالف القانون أو يتشاجر مع شرطي أو يتجاوز الإشارة الضوئية هو (أخو أخيته) !!!
3. وكان أجدادي البدو القدماء يغيرون (يسطون) على القبائل الأخرى ويتفاخرون بمن يسرق أكثر من غيره ويسلب أكثر من غيره ويسمونه (أخو أخيته) أيضاً !!!
4. وكان أجدادي البدو القدماء، والحق يُقال، يحرصون على تناول طعام السحور قبل انطلاق الغارة في حال كان وقتها في شهر رمضان المبارك !!! فهم ملتزمون بطقوسهم الدينية.
5. وقد تعلم أجدادي البدو القدماء، رحمهم الله، أصول دينهم وفروعه على يد بعض من يدعي القداسة وهو لا يفقه من الدين شيء، أولئك الجهلة الذين رسّخوا في أذهان أجدادي إن مجرد التلفظ ببعض الكلمات أو القيام ببعض الأفعال البسيطة، حتى لو كانت شكلية، ستكون نتيجتها السحرية الخلود في الجنة !!! لقد انشغل أجدادي المساكين بحساب عدد قصورهم في الدار الآخرة وأعداد الحور العين الممنوحة لهم بغير حساب، ولا تنسوا إن أجدادي مزواجين وضعيفين جداً أمام الحور العين الجميلات !!!!
6. إن أجدادي البدو القدماء بعد أن ضمنوا الجنة لتمتمتهم ببعض الكلمات الخفيفة باللسان وتمثيلهم للبكاء وقيامهم بمسيرات راجلة لم يعد أمامهم أي مانع لان يستأنفوا عملهم المحبب بالغارة على الآخرين ولكن في العصر الحديث، وكل شيء يتطور طبعاً بما ذلك عملية (التسليب)، أصبح الآخرون هم الدولة وشعبها من المواطنين الضعفاء، فما دام جدي قد ضمن الجنة فلماذا لايسرق ؟ ولماذا لا يأخذ الرشوة ؟ ولماذا لا يفسد إدارياً ؟ ولماذا لا يظلم عباد الله بعد أن ضمن رضى الله ؟ طبعاً لو جابهت أجدادي البسطاء بهذه الحقيقة سينكرونها بكل سذاجة ويقولون بأنهم لا يؤمنون بهذا الكلام، ولكني أقولها بكل صراحة: لن أصدقهم حتى لو اقسم أجدادي العظماء بأغلظ الإيمان.
7. لقد ترسّخ في أذهان أجدادي البدو القدماء، والسبب مدّعي القداسة دائماً، إن الدولة ظالمة وبالتالي فان أموالها من نوع مجهول المالك ومن الممكن الاستحواذ على تلك الأموال والتصرف بها بدون أي إحساس بتأنيب الضمير الذي دخل في غيبوبة بتأثير النص المقدس المزور، وهنا طرح جدي نفسه كمالك معلوم لأموال الدولة المجهولة، لقد انتهى الإشكال يا شيخنا الجليل فقد عرفنا المالك ... انه جدي العزيز.
8. عندما يسافر شخص عراقي إلى الخارج فإنه يتجنب رمي أعقاب السكائر والقناني الفارغة في الشارع الأمر الذي يمارسه بكل سهولة ويسر داخل العراق، السؤال: لماذا ؟ مع العلم إن الشخص نفسه والعمل ذاته، الجواب: إن المجتمع هنا يختلف عن المجتمع هناك.
9. سمعت مرة، ولحد الآن أتمنى أن يكون ما سمعته خطأ، إن أحدى المنظمات المحلية قدمت رشوة إلى منسق منظمة دولية لغرض الحصول على منحة مشروع لمكافحة الفساد المالي والإداري !!! ما أنا متأكد منه إن المنظمة حصلت على المشروع ولكم أن تتخيلوا التنفيذ !!!
10. اعرف مهندس في إحدى الدوائر لا يقبل أن يأخذ الرشوة أبداً، وكانت النتيجة إن كل من حوله ينظر له نظرة حزن وإشفاق وتعليق من كلمة واحدة: (خطية) !!!
11. كما تعلمون إن أشهر قانون في العراق هو: الأقربون أولى بالمعروف !!!
اعتقد، وعلى ضوء ما تقدم، إن احد أهم أسباب انتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري في العراق هو سيادة بقايا قيم وأعراف وتقاليد البداوة السيئة في المجتمع العراقي فرغم انتشار مظاهر التحضر والمدنية البراقة ورغم استخدامنا لأخر التطورات والاكتشافات العلمية، لكن لا يزال في داخلنا ذلك الرجل البدوي الشرقي المتخلف الذي يظهر بين الحين والأخر مذّكراً بوجوده القوي والطاغي على شخصية الفرد العراقي فمهما حاولنا التخلص من ذلك البدوي أو على الأقل إخفائه فلن نستطيع، لأنه مزروع في داخلنا، جزء من شخصيتنا، مترسخ فينا، جرب مرة وقم بعملية استفزاز لشخص ما يلبس آخر تقليعة من الثياب ويركب آخر موديل من السيارات ويستعمل احدث طراز موبايل، ماذا سيكون رد فعله ؟ سيكون الرد بدوي بامتياز: (ﮔوامة) و(حضّر عمامك) !!! انه بدوي تقليدي ولكنه يلبس ثياباً فاخرة بدلاً عن العباءة والعمامة ويركب السيارة بدلاً عن الجمل الأثير، الذي حصل هو تبديل بالشكل وبقى المضمون على حاله.
ما أريد قوله: إن انتشار قيم تمجد الأخطاء وترفع من شأن الفاسدين وتجعلهم قادة وزعماء يشجع بالتأكيد على استفحال هذه الظاهرة، فلا يزال المجتمع ينظر إلى الشخص الذي يتحايل على القانون وكأنه شخص شجاع وحاد الذكاء، وينظر إلى المرتشي وكأنه شاطر يحسن استغلال الفرص، والذي يحابي أقاربه ومعارفه بأنه (خوش ولد وما نسى أصله) !!!!
إن قيم مثل النزاهة، رفض الفساد، الشرف، الإخلاص في العمل، هي سلوك مجتمعي أولاً وأخيراً، قيم تترسخ في اللاشعور الجمعي لإفراد المجتمع وتصبح جزءاً من سلوكهم وثقافة عامة تتجسد في البيت والشارع والدائرة، فعندما ينظر المجتمع باحترام إلى المخلص ويساعده على الاستمرار بهذا النهج وينظر باحتقار إلى الفاسد ولا يقابله بنظرة تشجيع وافتخار، عندها فقط يمكن القضاء على الفساد.
خلال السنين الماضية، تحديداً من عام 2003 ولغاية الآن، تم صرف الكثير من الأموال عن طريق مؤسسات الدولة والمنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية لمكافحة الفساد المالي والإداري وتم تنفيذ الكثير من المشاريع في هذا السبيل ولكن، كما يلاحظ الجميع، لم يتم القضاء بل حتى التقليل من ظاهرة الفساد، والسؤال الكبير هو: لماذا؟
إن سبب فشلنا في القضاء على هذا المرض هو طريقة العلاج رغم صحة ودقة التشخيص، فقد تم تنفيذ الكثير من الأنشطة مثل ورش العمل، ندوات، ملصقات جدارية، لوحات ضوئية، لافتات، كراسات، إعلانات تلفزيونية وإذاعية باهظة الكلفة، وغيرها، تشرح مخاطر الفساد وأثره السلبي على المجتمع وتدعو إلى تجنبه، إن هذه الفعاليات التقليدية لا يمكن أن تقضي على الفساد فالكل يعرف مخاطر الفساد ومساوئه، بل إن أفضل من يتحدث عن هذا الموضوع هم الفاسدون أنفسهم ولو تم تكليف واحد منهم بإلقاء محاضرة لأبدع فيها أيما إبداع !!!
إن أفضل طريقة للقضاء على ظاهرة الفساد الإداري والمالي هي تغيير ثقافة المجتمع، عن طريق إحلال قيم، أعراف، وتقاليد جديدة، بدلاً عن القديمة التي ذكرتها آنفاً، قيم تركز على أهمية العمل نفسه وليس طريقة ادئه، قيم تركز على المضمون وليس الشكل، قيم تجعل الفرد العراقي ينظر إلى الشخص الفاسد بازدراء واحتقار، قيم تعزل الفاسد عن المجتمع بحيث يتم التعامل معه كشخص منبوذ يحمل جراثيم معدية، في هذه الحالة فقط نستطيع القضاء على الفساد، اعرف، بل متأكد، إنها مهمة صعبة جداً لكني اعرف أيضاً إنها ليست مستحيلة، اعرف إنها تحتاج إلى الكثير من الجهد والمال والوقت، لكني اعرف أيضاً إنها ستوفر،بعد انجازها، كم اكبر من الجهد والمال والوقت، بل عن طريقها سنكسب ما هو أهم، سنكسب الإنسان.
* منسق المنظمات الإنسانية في مكتب محافظ ميسان
Aldhamat1@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق