بغــــداد ...على مقياس رِخــتَـر!
داود الرحمانـي
هنـــاااااك.. في مدينتي الحالمة.. العمارة.. فينيسيا العراق وماسته.. وخلال عقد الخمسينيات من القرن المنصرم كان هنالك ولا يزال.. شارع يدعى (الكحلاء) وهو كورنيش جميل ينساب مع انسياب نهر الكحلاء (شط الجَحَله) من بداية تفرعه من دجلة انتهاءً بتفرّع نهر المشرَّح منه.. عشت في هذا الكورنيش طيلة ذلك العقد الزاهر والزاخر بشقاوة الصبا وَوَهج المراهقة وعنتريّات الفتـوّة وَفوران الوطنية.. كانت دارتنا الجميلة تقع في بداية ذلك الكورنيش تطل عليه وعلى نهره الساحر.. وفي نهايته وعلى ضفة النهر مباشرة تربض وتشمخ مدرستنا الفاتنة (السلام الابتدائية).. كانت المسافة بين بيتنا والمدرسة لا تتجاوز الكيلومتر الواحد هي طول ذلك الشارع تقريباً.. أتذكّر جيداً ان بلدية العمارة قامت بتعبيده مرّتين خلال ذلك العقد (1950- 1959) بعدها التحقتُ بالجامعة عام 59.. كانت مراحل العمل بجملتها لا تستغرق أكثر من اسبوعين وجميعها تنفّذ يدوياً ابتداءً من قلع الطبقة القديمة (بالقزمه) وتحميلها على اللوريات والتنظيف وفرش الحصى والحدِلْ وَرَش النفط الأسود وتكرار الحدِلْ وفرش القار المُسخَّن موقعياً وتسويته بواسطة رولات اسطوانية تشبه (شيبك فرش عجينة الكليجه!)...الخ , فلم تكن هنالك مكائن قلع ٍ أو إكساءٍ كهربائيةٍ أو ميكانيكيةٍ سوى تلك الحادِلة اليتيمة, كانت هنالك مجموعتان للعمل ولجميع المراحل احداهما تبدأ من بداية الشارع والأخرى من نهايته ثم تلتقيان في منتصف المسافة بعد انجاز كل مرحلة حيث تنطلق الهوسات و صيحات الفرح..أما جودة العمل فكانت تعتمد على الدقة في نسب خلط المواد.. ومهارة العامل ومسّاح المناسيب.. وخبرة المقاول.. وحرص و نزااااهة المشرف الحكومي!؟.. بعدها يظهر الشارع (بأعمدته المنيرة وَرصيفه الساحلي المزيَّن بأنواع الأشجار) أنيقاً رشيقاً أخّاذاً.. كل ذلك ينجز باسبوعين فقط !!!.
جعلتُ من تلك السطور أعلاه مدخلاً للتحدّث عمّا يجري اليوم في بغداد من تعثّرٍ في انجاز مشاريع تحديث واعادة تأهيل شوارعها وأزقّتها لتغدو صالحة لاستخدام البشر من سكّانها وزائريها.. وَلا أقصد السوّاح فتلك شريحة ( كَشَّتْ من بغداد بِسَبَبِنا) وافتقدناها منذ عقوووود!؟ بفضل ما كانَ وَكاااانْ في السالف القريب من الزمان وما يجري الآن (ولهم الحق في ذلك) حتى انطبق عليهم وعلينا ذلك المطلع من قصيدةٍ ساخرةٍ لي قلت فيه :-
( يا بيت اليِـنحَرْ حولِـيّه ... لو جابَتْ مَكروهَـه بْـنـيّه ).
من خلال تجوالي في بغداد وشوارعها وأزقتها كنت ولازلت أرتطم بمناظرٍ يأسف لها وعليها الغريب قبل القريب.. فهـنا شارع منبوشْ وهنالك تلال من الحصى النصف مطشوشْ وهناك جبال من الرمل المنفوشْ الغير مرشوشْ وهضاب من بلوكات الشتايكر (المقرنص) الربع مفروش وجملتها سوووووفَ تنتج لنا شارع او زقاق ثلث مغشوشْ!.. وإذا أضفت الى ذلك التقاطعات المقطوعة والأكوام من مواد البناء المزروعة في الأزقة بسبب حمّى او (مودة) بناء المشتملات.. تجد نفسك تستسهل اختراق خط بارليف او ماجينو على اختراق تلك الشِعاب.
لايمكن لي توصيف كل ما يشاهده المُواطن في جميع المَواطن. ولكنني اتمكن وبكل دقة وصف ما جرى ويجري في محلّتي (307 \ حي القاهرة \ ضبّاط) من تجديدٍ تطوّر تدريجيّاً بجهدٍ غيرحثيثٍ من المقاولين والمشرفين الغيرمخلصين (وَالمو.. نزيهين) فتحوّل الى تحديدٍ.لا تجديد. فلكي ادخل المحلّة بسيارتي قاصداً داري عليَّ أن أسوح أولاً في عدة أزقة وخاصّة الزقاق (9) بصعوبة جمّة بين القفز والطفر متحاشياً مخلفات الحفر والجفر مخترقاً الدربونة التي توصل زقاق 20 بالزقاق 26 تلك الدربونة الكسيحة التي تحوي ثانوية القاهرة للبنات وأمامها باحة فارهة على جانبي الدربونة كانت تسمى يوماً ما على خارطة المحلة (منتزه) وهي الآن مرتعاً ومستشفى ولادةٍ للكثيرمن اصناف الحيوانات الأليفة والزواحف الظريفة.. ومقبرةً للفضلات والمخلفات الكثيفة ومخاضاً (متخمّراً) من المياه الراكدة الثقيلة والخفيفة يقابلها ذلك السوق الأنيق بمحلاته الأثنى عشر النظيفة التي تقدم الخدمات الضرورية لساكني الجوار.
منذ 33 شهراً بدأ العمل في تحديث وإعادة تأهيل خدمات المحلّة ابتداءَ من مشروع (العشرة فولتات) الذي لم يرى النور الى مشروع مد خطوط الكهرباء تحت الأرض وتثبيت كابينة المقياس داخل حدود الدار ونصب الأعمدة (الغير عمودية) الكهربائية المائلة الى الجهات الاربع والتي لم يصلها التيار أيضاً.. وليظلّ الزقاق 42 المسكين ومنذ 10 سنوات تحت رحمة المحوّلة السقيمة التي تنفجر بين الحين والآخر ويكاد يذهب ضحيتها واحد أو أكثرمن ابناء الزقاق في كل انفجار وعلى أثره يهرع الآباء الى زمرة الانقاذ وتبدأ عملية جمع الأتاوة من البيوت لتدخل جيوب المنقذين النشامى وآخرها قبل اسبوع.. وكانت (100 ألف دينار) وما دامت الأتاوة تدفع للمنقذين من منتسبي الكهرباء (الوَ..طَنْ..طَنْ.. طَنيّة) فليس هنالك ما يبرر تصليح المحولة بجديّة وإخلاص أو استبدالها باخرى جديدة ..ثم جاءت الحفريات رقم 2 لإيصال الماء الصافي الذي تم ايصاله بقدرة قادر.. ثم الحفريات رقم 3 وَ4 وَ 5 وَ وَ...الخ. وفي كل مرحلة يُنجز الحفر ثم تُهمَل تلال مخلفاته على جانبيه لأسابيع الى ان تدفن الانابيب وما أدراك ما تنفثه تلك الأسابيع من أتربة خانقة بمجرد مرور (بايسكل أو مطرسكل) فما بالك من مرور سيارة يقودها شاب طائس ولا أبالغ لو قلت بأن (الطوز) وصل الى ثنايا (كناتير حفظ الملابس) اما الحدائق فقد أمست أشجارها مشابهة لشجرة كرستمس مغطاة بالتراب بدلاً من حبيبات البرد.. وكل ذلك يحدث في صيف بغداد (القارص!) وزوابعه الرمليه التي اضافت (جيلة ماش) لمعاناتنا .. ثم جاءت الطامة الكبرى منذ 20 شهرا حيث بدأت مراحل التبليط التي لم ينجز منها سوى رصف بلوكات مسار الأرصفة واكساء البعض منها (بالمقرنص) اما باقي الأرصفة فقد فرشت بالحصى وأهمِلت منذ أكثرمن شهرين!.. يستثنى من ذلك تبليط الشارع الرئيس (ذو الاتجاهين) الذي يفصل المحلة 307 عن311 ويـا له من انجاز رديئ الى درجة تجد فيه أن الجانب المحاذي للمحلة 307 ظهر اكثر ارتفاعاً من الجانب المحاذي للمحلة311..إي والنِعِمْ !!!!؟؟ .. تلك حالة واحدة اعرضها لمحلة واحدة من الدرجة الثانية وُزّعت قطع اراضيها (ذات الـ 600م مربع) على الضباط خلال ستينيات القرن الماضي.. فما بالك بالأحياء الشعبية وأحياء أطراف العاصمة والعشوائيات لا بل حتى أزقة شارع 52 وشارع الصناعة والبتاويين وغيرها وغيرها حيث يعجز القلم عن العد والوصف, وزيارة خاطفة لها تجعلك تتصور ان بغداد قد أصيبت بهزة أرضية مقدارها كـذا درجة على مقياس حجّة الألمان ( رخـتَــر)عظّم الله أجره..
ربّ سائل يسأل:- لـيـيـيـش؟ وما هو السبب؟ وأين الداء؟ ومن أين يبدأ؟ ومتى ابتدأ؟ والأجوبة سهلة ويمكن الاجابة عليها بكلمة واحدة ألا وهي (الفسـاد) ذلك الداء القديم الذي خُلِقَ أو اختلقته الخليقة منذ خُلِقَتْ وتنوّعَ طبقاً لتنوّع الأجناس والأقوام ثم تطوّرَ تدريجيّاً سلباً أو ايجاباً مع تقدمها أو انحطاطها على مرّ العصور متأثراً بما تفرزه الحوادث الكبرى من تحوّلات.. والفساد لفظة واسعة لا تنحصر بالفساد المالي فقط , والفساد الاداري هو أيضاً أوسع من أن ينحصر بالمال فقط ..أمّا ما تطرقت اليه اعلاه فيقع داخل نطاق فساد إدارة الأموال العامة.. أموال الشعب, وأطلقتُ عليه صفة (الفساد المُبَـيَّـتْ) كونه يبدأ أحياناً من بداية تكليف الجهة التي يقع على عاتقها تنفيذ المشروع وأحياناً يبدأ قبل ذلك! أي من الجهة التي توصي بتنفيذه.. خصوصاً اذا كانت هي نفسها التي ستنفذه أو تحيله الى من سينفذه من العَنترجيّه (أقصد القنطرجيّه) وينتهي بشهادة حسن السلوك (عفواً) حسن الإنجاز التي يوصي بها المهندس المشرف (أو اللجنة المشرفة) على التنفيد.. وهنا يكمن الدااااااء في كل ما تم تنفيذه من مشاريعٍ لا ترقى الى الحد الأدنى من مواصفات الجودة؟. وأخيراً وليس آخراً (وللأمانة) ولكوني كثير التجوال في المنطقة أقول :- لم ألتقي بمهندس واحدٍ من الأمانة أو أي عضو من أي مجلس بلدي في ساحة العمل! وإن تواجد فلعلّه مرَّ مرور الكرام ..ولم ألتقي إلاّ بمتعهدي استخدام العمال.. وَ(باشا) واحد فقط من المقاولين الثانويين ولعله مقاول (سادِسَوي) وليس ثانوي! وختاماً أقول لهم جميعاً :- يا قووووم رفقاً بالقوارير.. تَـره مَصّختوهه وْثَـخّنتوهه وْصارت يَخْني!.. والعراق الجريح بعد الله من وراء القصد.
drahmani2004@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق