عالِم وعَلَم.. و.. قَلَم والخلدونيّـة
داود عبد الرحيم الرحماني
مفارقة.. ومقارنة لم اتطرق اليهما في مقالة الأربعاء 19 تشرين2 المنصرم حيث حدثتكم فقط عن قلم آينشتاين الذي أهداه الى العالم الشهيرعبدالجبار عبدالله تقديراً واعترافاً بعبـقريته,وكيف انتزعه منه تلميذه الخامل,الحارس القومي الفاشل أثناء توجّهه مع جلاوزة (عَروس ..عفواً عَبوس الثـورْ...آتْ ) لاعتقاله يوم 14 رمضان 1963(وشلون هَفـّـه راشدي) قوي أفقده توازنه ونعته بالـ (دماغ سِـزْ!!) وكيف أودع العالم موقف النادي الأولمبي وهنالك أجبروه على حمل وتفريغ تـنـَـكة البووووول!؟ تلك التنكه التي أقترح أن يتم العثور عليها وإيداعها متحف الحزب القائد (الضَـرْ...ضَـرْ...وره) لتحفظ مع تحفيّـاته الإنسا...نـُـوَويّـه وأدبيّـاته العَـبْ...قـُرويّه!..دعوني أعود بكم ولو بالخيال والتصوّر الى(سالوفةٍ) حكاها لي معمّر متحضّر متنوّر..ذلك هو(صديقي) المرحوم والدي(المرجع الثـَـبْتْ) عبد الرحيم الرحماني المولود عام1904والمتوفي في8 نيسان2003؟ صاحب أول مكتبة في العمارة..افتتحها في شارع المعارف العريق بداية عام1920وعمره 16سنة.. حكاها لي قائلاً:- كانت مكتبتي يا ولدي عامرة بأنواع القرطاسية والكتب التاريخية والدينية والمدرسية وكنت أول مجَلِـّـد للكتب في المدينة وهي مهنة إضافية كان يمارسها أصحاب المكتبات في البلدان العربية وقتـئذٍ بالإضافة الى بيع وشراء وتصليح أقلام الحبر(الحديثة الظهور) والنادرة الاستعمال من قبل العامّة..وفي عطلة نصف السنة الدراسية لذلك العام1920 جاءني الشيخ عبدالله (وهو أحد شيوخ المندائيين الكرام في قلعة صالح) وبصحبته صبيّ نحيل.. رحبت بهما...جلس الشيخ على مقعد الضيوف الوحيد في مكتبتي الصغيرة جداً وقال لي:-عبدالرحيم هذا إبني جبار بصف الأول..ضاع منّه كتاب القراءة(الخلدونيّة)أرجوك جَـلـِّـد له كتاب جديد وخلـّيه يگعد يمّـكْ ودير بالك عليه وطوّل خلگك ويـاه ! وآني رايح مشوار وما أطوّل عليكم...وما ان توارى الشيخ عن الأنظار حتى استلمني الولد بالأسئلة..سؤال تلو السؤال.. بهرتني أسئلته الثاقبة وهو الصَبي ابن الثامنة ربيعاً..بدأت بتجليد الكتاب وهو يسأل وأنا أجيب... إنتهيت من التجليد بعد ان أشبعني أسئلة..وخلال أقل من ساعة أصبحنا أصدقاء فقد دخل قلبي بذكائه وفطنته وسعة أفقه..وقد انبهرعندما رآني أملأ قلماً (مستعملاً) بالحبر وسألني عنه عدة أسئلة فما كان منّي إلا أن قدّمته له كهديّة..رفض ان يأخذه بإصرار غريب!...عاد الشيخ بعد أن أنهى مشاويره وأخبرته بما جرى بيني وبين ولده جبّار فقال:- أكيد دوّخك بالأسئله. فرجوته ان يقنع الولد بقبول قلم (الپاندان) كهدية وإن كانت لاتناسب عمره فأجاب:- عبدالرحيم..مدير مدرسته ماعنده قلم حبر!...أخيراً قـُبلـَتْ مني الهدية وأضفت إليها القراءة (الخلدونية)...فإذا بالولد يهجم عليّ مصافحاً ومقبّلاً.. وادركت ان رفضه للهدية كان خوفاً من والده...ودّعني الشيخ ممتنـّـاً مصطحباً ولده الذي ظلّ (يتـلفـّـتْ) نحوي بين الخطوة والخطوة بوجهٍ ملؤه السعادة والإمتنان..وتمر الأعوام ويكبر الصَبي ويصبح فتىً ثم شاباً ممشوق القامة نحيفها ويُرسَل في بعثة الى أمريكا..ويعود ومعه الدكتوراه. ذلك هوالعالم العراقي العماري(الجـلعاوي)عبدالجبارعبدالله. كبر العالِم واشتهر وكبرتْ معه مكتبتي وأضفت اليها مطبعة عام1940 ثم داراً للسينما عام 1950وووغيرها..وظل الدكتور وفيّاً حريصاً على ملاقاتي في العمارة أو في بغداد كلما سنحت له الفرصة وظلّ يذكّرني بذلك اليوم ويتباسط معي ليغمرني بامتنانه معتبراً ان موقفي كان نادراً بينما أحسبه أنا موقفاً تشجيعياً وردّة فعلِ لإعجابٍ بنبوغِ صَبيٍّ أحسست ان له مستقبل بالرغم من كوني كنت أصغر من أن أنظر وأحكم على مثل تلك الأمور وأنا ذلك الفتى ابن السادسة عشر...انتهت (سالوفة) الوالد..وتدور عجلة الأيام والعقود .. وفي عام1959إحتاج عبدالرحيم لموقفٍ من د.عبدالجبار عندما احتاج ولده (كاتب السطور) الى عدة درجات في المجموع كي يتم قبوله في كلية الهندسة \ قسم المعماري... دعوني ٍاتحدث عن تلك السالوفة بلساني :- لقد كنت مغرماً بالرسم والتخطيط والألوان منذ الطفولة, أكملت الثانوية وقدّمت لعدّة كليات وقبلت في أغلبها..لم يكن القبول مركزيّاً كما هو الآن.. وفعلاً داومت عدّة أيام في معهد التربية البدنية ومثلها في كلية العلوم والتربية والطب البيطري ولكني كنت دوماً أعود لأجلس مع طلبة القسم المعماري(في قاعتهم الوحيدة) كلما سحبتُ أوراقي من كلية من تلك الكليات..طال الإنتظار ودخلنا شهر تشرين الثاني ولم أُقبل في المعماري, كذلك لم أبرح حرم كلية الهندسة (باب المعظم). اضطرّ والدي الى استصحابي لمنزل صديقه عبد الجبارعبدالله في(شارع حسام الدين)..استقبلنا الدكتور ورحب بنا بحفاوة واستبشرت خيراً حينما شاهدت رئيس الجامعة ( اٌبْـزرّه ) يأخذ والدي بين ذراعيه ويهيل عليه القبَل.. فقلت لنفسي حاسداً لها :- إي ولك داوووود..هايْ هيَّ..مايك بالصدر,إجتـّـكْ الهندسه المعماريه إلـبابْ حوشكم جلسنا في (الطرمه) حيث الجو كان جميلاً جداً..وهل هنالك أجمل من خريف بغداد؟..لا أريد أن أطوّلها عليكم..دخل والدي في صلب الموضوع بعد حديث الذكريات وتكرر موضوع القلم والخلدونية..الخ..استمع الدكتورللوالد ثم لي ببالغ الانتباه...عرضت عليه كل الأمور بلبالقة وحجّة (جلبت انتباهه)وكيف أن مجموعي يحتاج الى9 درجات كي أقبل في المعماري..الخ (كان هذا القسم غيرمعروف وقد اضيف للكلية في ذلك العام )...بعد أن انتهينا من عرض مالدينا..وجه كلامه لي قائلاً :- داود .. تريد رأيي؟ أقترح عليك دخول كلية الحقوق(القانون حاليّاً)وأنا واثق من انك ستصبح محامي لامع.. وثِق بعدين راح تترحملي...تفاجأنا بهذا الجواب وأدركنا أن الدكتور يعني ما يقول اعتماداً على ما لمسه مني من لباقة في الطرح,فأجبته بأني خريج الفرع العلمي ولا رغبة لي في دراسة القانون...التفتَ الى والدي وفجرّ القنبلة التي لم أكن أتوقعها وقال له:- أبو سامي هَل تقبل لي وهل تصدّق وأنا عبدالجبار أن أتجاوز الثوابت التي اشتركت في وضعها , وأردف قائلاً بجديّة :- هناك أربعة كليات..لا تصدّگ بكل من يخبرك ان عبدالجبار عبدالله قد تدخّـل في ضوابط القبول فيها ولا في غيرها وهي ( الطـب والهندسة وطب الأسنان والصيدلة). تقبل؟ وأنت من تعلمت الكتابة بقلمه والقراءة بخلدونيّـتهِ؟..هنا ضربَتْ حكمة العالِم عصفورين بحجر واحد...ألأول هو الثبات على قَيَمِهِ التي يؤمن بها والثاني هو دغدغة عواطف أبي الذي يحمل نفس القيم وجعله في صفـّه). سقط الأمر بيد والدي فقد أ ُفحِمَ بالحجّة..لاحظت على عينيه بريق الدموع! فنهض متوجهاً صوب الدكتور وقبّـله من جبينه قائلاً له :- الله يبارك بيك ويحفظك إلنه ذخر وهيبه.. ثم توجّه بالكلام لي قائلاً :- ولك بويه داود إنت ما اجتهدت وما حصلت على معدل وجاي اليوم تشمر حملك على هالخيّر ابن الخيّرْ, فقاطعه الدكتور موجهاً الكلام لي وسألني :- يا كليّه ترغبها بعد الهندسة, فأجبته ان اسمي موجود مع الأحتياط في معهد الهندسة الصناعية العالي,إستأذن الدكتور من والدي..دخل الدار ثم عاد حاملاً معه ( فايل ) كُتِبَ عليه بخطٍٍّ واضح (معهد الهندسة الصناعية)..جلس وهو يقلـّـبه...وقال لي:-
نعم هذا اسمك وتسلسلك 6 بالاحتياط.. تريد تفوت بهذا المعهد؟..فأجابه والدي بالإيجاب نيابة عني خوفاً من أجيبه بالرفض,فقلت في نفسي..هَـمْ إسمها هندسه(شي أحسن من ماكو شي) فقال لي الدكتور :- روح ابني يوم السبت وداوم ( وكنا في يوم الأثنين9\11\1959)..إعتقدت ان الدكتور سوف يتّصل بعميد المعهد ويوعز له بقبولي بالإسم أو شيئ من (ها لقبيل)..عرفت بعد ذلك انه كان في النيّة قبول جميع الذين ظهرت اسماءهم كاحتياط في المعهد وكنا 11 طالب..وفعلاً تم قبولي وأذكر جيداً اني داومت يوم الاثنين 16\11 متأخراً عن التلاميذ بشهرين. بهذه الطريقة الذكية اللبقة كان هذا العالم (وأمثاله) يتعامل مع الأمور.. فلم يكن هنالك في عهد ذلك العالم العلم ما يسمّى (صديق الريِّـس؟). ولا مَن يصل معدّله الى105%؟.وإن كان قد حدث ما حدث في بعثات ذلك العام حيث تم تفضيل (اللي لحـِّـگـَـوا ركضْ وصاروووووا شيووووعيين؟!).هذا هو عبدالجبار عبدالله العالم العراقي الذي صفعه تلميذه الشاب الحارس القومي وانتزع منه قلم الحبرالمهدى له من آينشتاين..وهذا هو نفسه عبدالجبار الصَبِيّ قبل أربعة عقود حين أهداه الشاب الكتبي عبدالرحيم قلم حبرٍ والخلدونية..فشتـّـان بين الزمنين والشابّين ..الحارس القومي الحقود .. والحارس الإنساني الودود.. وفاتني أن أذكر أنه في جلسة (الطرمه) سمعت العالم يقول لوالدي بحسرةٍ :- ان أعلى هدية أهديت لي هي قلم آينشتاين كونها كانت حقّاً من أشهر إنسان في هذا الزمان..وإن أغلى هدية أهديت لي هو قلمك يا أبو سامي كونها كانت من أندر انسان في ذلك الزمان..ولكن مع الأسف أضعـت قلمك بعد11سنة فقد خزنه والدي ولم يسمح لي باستعماله طوال سنيّ الإبتدائية واستعملته فقط في سني الثانوية ثم فقد مني ولا زلت افتقده.. أما أنا كاتب السطور فقد تكحّلت عيناي بالنظر..وطربت أذناي بالاصغاء الى هذيـن العَـلـَمين..ولم أتشرف بلقاء ومشاهدة القـَـلـَمين.
الرحمــــ داود ـــــاني
الجزء الثاني من مقالة قلم وعالمان
موقع يضم جميع ما يتعلق بمحافظة ميسان من تراث وحضارة وهو الموقع الجديد لموقع ميسان ماسة العراق اول موقع انشيء لمحافظة ميسان على صفحات الويب الاتصال بنا 009647703229521 ztch25@yahoo.com
تأسس موقع ميسان ماسة العراق بجهود فردية لبيان تاريخ محافظة ميسان ويعد اول موقع للمحافظة نشر على صفحات الويب بتاريخ 3/1/2005
موقع عام يتحدث عن محافظة ميسان الماضي والحاضر والمستقبل الموقع الاول على صفحات الانترنت للمحافظة
ztch25@yahoo.com الموبايل 009647703229521
رأيكم يهمنا جدا لا تبخلو بالاتصال بنا
اعداد الاعلامي زياد طارق جايد مدير المركز الثقافي في ميسان
هناك تعليق واحد:
نه لشرف لي ان اكون هنا, فعلا الرابطه تذكرنا بالمنسي, محافظه ميسان الرائعه, الاهوار والناس البسطاء
دائما افكر واقول , لان المدينه صغيره, فان التطور فيها لن يستغرق وقتا طويلا, فضلا عن الامان الموجود في تلك الربوع
يكولون المحافظ ديشتغل, بعد ما ادري
سلامي , وانشاء الله ازور المدونه مره اخرى, حتى اطلع على احوال المدينه اكثر واكثر
ساندي بل
إرسال تعليق