النحّات .. و الإنفتاح .. و ما دونهما
بقلم علي سوداني
شاعت الحرية والدمقراطية في أحد البلدان بعد احتلالها لأكثر من إثنان وستون من قبل ، فتطوّع أحد المثّالين للإعلان عن نيته دعوة الجمهور من كل المشارب والمهن والفنون لنقد تمثاله الجديد كتعبير حي على الإنفتاح وقبول الآخر خصوصا في هذه المرحلة الجديدة التي يعيشها الوطن والشعب بعد قرون من الكبت والحرمان. أحد الناقدين أشار الى أن ياقة القميص في التمثال لم يكن شكلها كما في عصر الممثول له آنذاك، فسأله النحّات عن مهنته ، أجاب : خياط ! فأردف النحّات أنْ قد صدقت ! ثم لفت ناقد آخر الى أن شكل الحذاء يعود الى عصرنا الحاضر ولم تصنع الأحذية زمن الممثول له بذاك الشكل المبان. فسأله النحّات عن مهنته، أجاب: صانع أحذية ! فردّ النحّات أنْ قد صدقت ! وتشجّع آخرون على توجيه النقد الذي خرج عن الإلتزام بما هو بنـّاء .. وأوشك حفل "الإنفتاح" على الجمهور أن يتحول الى مناوشات وصراخ وعويل وشتم وإنتقاص من كل ما هدف إليه النحّات من تفاعل بيني مع الجمهور. و بعد أن هدأ روع الحاضرين وعاد الجمع لبعض اللياقة والأدب و الإحترام في الحوار وتوجيه الإنتقاد ، تشجّع أحدهم للفت أنظار النحّات ، والجمهور على حدّ سواء ، أنّ الأصبع الصغرى لليد اليمنى من التمثال لا تتناسب وحجم الباقي من الأصابع ، فأطرق النحّات الذي ما كاد أفلح لتوه في تهدئة روع وجياشة حماسة من الجمهور منفلتة العقال .. فسأل الناقد عن مهنته فردّ الأخير : صانع أحذية .. يا أستاذ!
* * *
فجمع النحّات أنفاسه بشهيق شبه مسموع رافعا صدره للبروز مادّا عنقه كمن يتهيأ لإطلاق قذيفة مدفع إفطار العودة الى الوطن المكبوت والمذبوح منذ قرون .. مستبشرا بغدٍ خالٍ من الترويع والقهر والسجون .. عازما على أن لا يتخلى عن واجبه في الدفاع عن حقوق أبناء وطنه المكلوم .. متذكرا ذلك القول المشهور لواحد من قادة ثورة أهل فرنسا قبل قرون أنه مستعد لبذل حياته من أجل أن يصرّح أياً كان بالمكنون .. مصمماً على أن لا يترك للفوضى أملا لتدبّ ثانية في أوصال جسد وطنه المقطـّع وحقــّه المضيّع على امتداد الماضي من الدهور .. جامعا فيض كلماته المكبوتة بين شفتيه المزموتين تخفيان وراءهما سيلا من الكلمات "السافلة المقتضبة" كما توجّس الناقدون .. ثم أطلق زفيرا ما خفي سماعه على الحاضرين .. تلته تنهيدة تنم عن صبر شبه مفتعل كي لا تـُقتل في المهد فرحة بشرى بالعهد الجديد .. تبشّر بتلاويح أمل في أن يـُقبل الآخر ورأيه المخالف ضمن حدود المقبول .. فنظر النحّات بأسى يؤطره الإشفاق على حال وصلت فيها الأمور لدرجات من إنحطاط وإسفاف واضحين لكل ذي بصيرة وعيون ، لا يصلحهما عطـّار وإنْ جاء بأدوية من الهند وصفها كل العارفون بما تيسّرمن أسرار الكون و " قراءة الأسوار والأسلاك و القمرالحزين " مرّت على ملايين البشر الفانون .. يتزاحمون ويتصارعون في مضانّ مصبّها الأول والأخير أنْ لا يؤثـِروا على أنفس خصاصتها بالضدّ من كرامة الإنسان التي أراد لها مسوّيها تقوىً تطغى على كل مسالك الفجور ، فتلك ملكات الدوابّ التي تهارجها بائن كما يشاهد عند الحمير .. وإنْ علا شأن الأخيرة فأسفار على ظهورها تحمل هي معفاة عن قراءتها ناهيك عن فكّ ألغاز المزمور .. فحلّ الذكر الكريم المعضل مصرّحا في محكمات آيه الحكيم ما معناه إنّ شرّ الدواب عند الله الصم البكم العمي الذين لا يفقهون.
كل تلك المشاعر جاشت في صدر النحّات ، متذكرا أشعارا قرأها في منفاه أمضى فيه عقوداً أبداً متنهدا حسرات : أنْ "هل سوف أعود ؟" ، منها واحدة تقول :
تعبت يداي من الطواف
على جباه الميتين
وعلى أكفّ الميتين!
ماذا يـُراد من المفـتـَّّح
مثل زنبقةٍ على صدأ الصخور ؟
يترقب الزمن الضنين !
(علي جعفر العلاّق)
وأيقن النحّات أنّ الضنين من الزمن اللئيم ما زال يجثم على صدر وطنه كرأس نبي مذبوح .. كما قال الشاعر:
والعراق الذي نفتقد
نصف تاريخه أغان و كحل
ونصف طغاة!
(عدنان الصايغ)
وعاد النحّات يبلسم جراحه بما قال الشاعر الإيرلندي وليام بتلر ييتس (1865- 1939):
الإيمان قناعة يفتقدها الأخيار
بينما الأشرار أبدا تملؤهم جياشة الحماس!
* * *
التفت النحّات الى الناقد ، الذي بدا ويكأنّ الحيض قد فاجأه ، ليسأل:
ماذا قلت صنعتك تكون؟
أجاب الناقد: صانع أحذية يا أستاذ !
فأردف النحّات : النقد لك فيه الحق بمستوى الحذاء فما دون ، واترك ما علاه لغيرك يا محموس!
شاعت الحرية والدمقراطية في أحد البلدان بعد احتلالها لأكثر من إثنان وستون من قبل ، فتطوّع أحد المثّالين للإعلان عن نيته دعوة الجمهور من كل المشارب والمهن والفنون لنقد تمثاله الجديد كتعبير حي على الإنفتاح وقبول الآخر خصوصا في هذه المرحلة الجديدة التي يعيشها الوطن والشعب بعد قرون من الكبت والحرمان. أحد الناقدين أشار الى أن ياقة القميص في التمثال لم يكن شكلها كما في عصر الممثول له آنذاك، فسأله النحّات عن مهنته ، أجاب : خياط ! فأردف النحّات أنْ قد صدقت ! ثم لفت ناقد آخر الى أن شكل الحذاء يعود الى عصرنا الحاضر ولم تصنع الأحذية زمن الممثول له بذاك الشكل المبان. فسأله النحّات عن مهنته، أجاب: صانع أحذية ! فردّ النحّات أنْ قد صدقت ! وتشجّع آخرون على توجيه النقد الذي خرج عن الإلتزام بما هو بنـّاء .. وأوشك حفل "الإنفتاح" على الجمهور أن يتحول الى مناوشات وصراخ وعويل وشتم وإنتقاص من كل ما هدف إليه النحّات من تفاعل بيني مع الجمهور. و بعد أن هدأ روع الحاضرين وعاد الجمع لبعض اللياقة والأدب و الإحترام في الحوار وتوجيه الإنتقاد ، تشجّع أحدهم للفت أنظار النحّات ، والجمهور على حدّ سواء ، أنّ الأصبع الصغرى لليد اليمنى من التمثال لا تتناسب وحجم الباقي من الأصابع ، فأطرق النحّات الذي ما كاد أفلح لتوه في تهدئة روع وجياشة حماسة من الجمهور منفلتة العقال .. فسأل الناقد عن مهنته فردّ الأخير : صانع أحذية .. يا أستاذ!
* * *
فجمع النحّات أنفاسه بشهيق شبه مسموع رافعا صدره للبروز مادّا عنقه كمن يتهيأ لإطلاق قذيفة مدفع إفطار العودة الى الوطن المكبوت والمذبوح منذ قرون .. مستبشرا بغدٍ خالٍ من الترويع والقهر والسجون .. عازما على أن لا يتخلى عن واجبه في الدفاع عن حقوق أبناء وطنه المكلوم .. متذكرا ذلك القول المشهور لواحد من قادة ثورة أهل فرنسا قبل قرون أنه مستعد لبذل حياته من أجل أن يصرّح أياً كان بالمكنون .. مصمماً على أن لا يترك للفوضى أملا لتدبّ ثانية في أوصال جسد وطنه المقطـّع وحقــّه المضيّع على امتداد الماضي من الدهور .. جامعا فيض كلماته المكبوتة بين شفتيه المزموتين تخفيان وراءهما سيلا من الكلمات "السافلة المقتضبة" كما توجّس الناقدون .. ثم أطلق زفيرا ما خفي سماعه على الحاضرين .. تلته تنهيدة تنم عن صبر شبه مفتعل كي لا تـُقتل في المهد فرحة بشرى بالعهد الجديد .. تبشّر بتلاويح أمل في أن يـُقبل الآخر ورأيه المخالف ضمن حدود المقبول .. فنظر النحّات بأسى يؤطره الإشفاق على حال وصلت فيها الأمور لدرجات من إنحطاط وإسفاف واضحين لكل ذي بصيرة وعيون ، لا يصلحهما عطـّار وإنْ جاء بأدوية من الهند وصفها كل العارفون بما تيسّرمن أسرار الكون و " قراءة الأسوار والأسلاك و القمرالحزين " مرّت على ملايين البشر الفانون .. يتزاحمون ويتصارعون في مضانّ مصبّها الأول والأخير أنْ لا يؤثـِروا على أنفس خصاصتها بالضدّ من كرامة الإنسان التي أراد لها مسوّيها تقوىً تطغى على كل مسالك الفجور ، فتلك ملكات الدوابّ التي تهارجها بائن كما يشاهد عند الحمير .. وإنْ علا شأن الأخيرة فأسفار على ظهورها تحمل هي معفاة عن قراءتها ناهيك عن فكّ ألغاز المزمور .. فحلّ الذكر الكريم المعضل مصرّحا في محكمات آيه الحكيم ما معناه إنّ شرّ الدواب عند الله الصم البكم العمي الذين لا يفقهون.
كل تلك المشاعر جاشت في صدر النحّات ، متذكرا أشعارا قرأها في منفاه أمضى فيه عقوداً أبداً متنهدا حسرات : أنْ "هل سوف أعود ؟" ، منها واحدة تقول :
تعبت يداي من الطواف
على جباه الميتين
وعلى أكفّ الميتين!
ماذا يـُراد من المفـتـَّّح
مثل زنبقةٍ على صدأ الصخور ؟
يترقب الزمن الضنين !
(علي جعفر العلاّق)
وأيقن النحّات أنّ الضنين من الزمن اللئيم ما زال يجثم على صدر وطنه كرأس نبي مذبوح .. كما قال الشاعر:
والعراق الذي نفتقد
نصف تاريخه أغان و كحل
ونصف طغاة!
(عدنان الصايغ)
وعاد النحّات يبلسم جراحه بما قال الشاعر الإيرلندي وليام بتلر ييتس (1865- 1939):
الإيمان قناعة يفتقدها الأخيار
بينما الأشرار أبدا تملؤهم جياشة الحماس!
* * *
التفت النحّات الى الناقد ، الذي بدا ويكأنّ الحيض قد فاجأه ، ليسأل:
ماذا قلت صنعتك تكون؟
أجاب الناقد: صانع أحذية يا أستاذ !
فأردف النحّات : النقد لك فيه الحق بمستوى الحذاء فما دون ، واترك ما علاه لغيرك يا محموس!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق