الشهادة .. سلاح الأبناء يتغافل عنه الآباء!
د. نضير الخزرجي*
لا يطلب الإنسان الهجرة لذاتها، وإلا أصبحت هروبا من واقع، وإنما تتعدد الدوافع والبواعث المشروعة، ولهجرة مواطني الشرق الأوسط بعامة والعراقيين بخاصة، إلى أوروبا واستراليا وأميركا والدول الإسكندنافية أسباب كثيرة، تقف على رأسها الاستبداد، وعدم قدرة السلطة الحاكمة التعايش مع معارضة سلمية فتستخدم الإرهاب، ما يدفع الرافض للظلم إلى البحث عن موطئ قدم يستطيع فيه ممارسة حرياته على المستويات كافة، العبادية والحياتية والسياسية والإقتصادية، بعيدا عن أعين الاستبداد.
وليست الهجرة بالأمر الهين، وإن تبدو لمن لم يتذوق حنظلها، أنها العسل المصفى، فهي معاناة وآلام ومتاعب مادية ونفسية وروحية، بخاصة وان المهاجر لم يستقل حافلة أو طائرة كأي مسافر مطمئن البال يغادر بلده إلى آخر على أمل العودة ضمن مدة محددة، فهي رحلة مجهولة العواقب غير مضمونة النتائج، فكم من المهاجرين من ابتلعتهم أمواج البحر على سواحل اندونيسيا وماليزيا واستراليا والمغرب واسبانيا، وكان من بينهم الكثير من العراقيين أطفالاً ونساءاً وشيوخا وشبابا.
وحتى لو استقر المقام بالمهاجر، فانه يظل حبيس الغربة، التي ما بعدها غربة حتى وإن طالت الأعوام، ولاسيما لمن لا يقدر على زيارة بلده ثانية لمطاردة الأجهزة الأمنية له، وتترك الهجرة تأثيرها السلبي على الجيل الثاني، أي جيل الأبناء الذين تنقطع بهم السبل عن ثقافة الأم، ولا يبقى منها إلا البيت الأسري والجمعيات والمراكز والمساجد والحسينيات والمدارس، والأخيرة لا تستطيع أن تستوعب العدد الكثير من المهاجرين وبخاصة لدى الجالية العراقية التي تعد من الجاليات الكبيرة في بلدان المهجر.
ولكن رغم المشاكل التي يكتوي بنارها الآباء، ولا يكاد الأبناء يتلمسونها عن قرب، فان هناك من الأبواب المفتّحة للأبناء ما يعجز الآباء عن فتح مغاليقها حتى وان عاشوا في بلدانهم بأمن وأمان وبحبوحة من العيش، وواحدة من أبواب الأمل، هي الدراسة وإمكان نيل الشهادات العلمية والدراسات العليا بيسر، حيث تعتبر الشهادة سلاح الشاب الذي يود الانطلاق في هذه الحياة القائمة على المنافسة الشديدة، فمن يريد أن يضمن لحياته مستقبلا رغيدا ما عليه في الأعم الأغلب إلا أن يضمن لنفسه شهادة جامعية، وإلا فان حياته ستسير وهي في مقتبلها على طريق غير مستوية، وفي كثير من الأحيان لا تقوده إلى مبتغاه وطموحه.
فالشهادة الجامعية بالنسبة للجيل الجديد، نعمة ما بعدها نعمة، لا يدرك أهميتها إلا من قادته قدماه إلى مراكز البحث عن العمل ومراكز المعونة الاجتماعية سعيا خلف معونة أسبوعية لا تكاد تكفي لأيام بعدد أصابع اليد الواحدة، وهي لا تليق بشاب مفتول العضلات منفتح على آمال عريضة وطموحات لا حد لها لبناء حياته وتأسيس كيان أسري، وقد دلت التجربة أن أية أسرة مهاجرة، متعففة كانت أو غنية تفكر ألف مرة قبل أن توافق على تزويج ابنتها لعاطل عن العمل، أو لا يحمل شهادة جامعية تعينه على مصاعب الحياة.
والشهادة الجامعية قد لا تفيد المهاجر الذي مضّ به العمر، لان الشركات والمؤسسات الغربية تنتقي الطاقة الشابة المتسلحة بالدرجة العلمية والتجربة، ولكنها على قدر كبير من الأهمية للجيل الشاب، ترفع عن كاهله الشيء الكثير، وتضعه على السكة السليمة. ولو فكر الأب قليلا لاكتشف أهميتها، ففي البلدان الأم، يصرف الآباء كل شيء من اجل إرسال أبنائهم في بعثات دراسية للحصول على شهادات علمية في الجامعات الغربية، بل ويحمل بعض الآباء أو أكثرهم ديونا من اجل مصلحة ابنه المبتعث، لكن بعض الآباء في بلاد المهجر يرفس هذه النعمة برجليه، ويستغشي عقله بثياب الجهل واللامبالاة، فيترك ابنه وشأنه ولا يشجعه على إنهاء الدراسة الجامعية.
والأسباب كثيرة، ولكن القاسم المشترك في جميعها جدب الثقافة وخواؤها، فالآباء من هذه الشاكلة هم ضحية الثقافة التي يتلقونها في المحافل التي اعتادوا حضورها، والأبناء ضحية آباء لا يدركون قيمة العلم والتعلم، بخاصة في بلد قائم على العلم والشهادة، فعلى سبيل المثال، لم ألحظ وأنا في المملكة المتحدة منذ عقدين، أن خطيبا تحدث عن أهمية الشهادة الأكاديمية إلا نادراً، فربما لافتقاره إليها يجعله يغض الطرف عن مثل الحديث لشعور غير مبرر بالنقص، ولكنه والحال هذه يظلم الجيل الجديد، فعلمه الحوزوي زينة، وعدم امتلاكه لشهادة جامعية أكاديمية حديثة لا يقلل من شأنه، بل إن الخطيب المملوء علما وفقها هو زينة المجالس، وإذا ألحقها بشهادة أكاديمية من قبل أو بعد زاد في الخير خيرين، ومثل هذا الخطيب يكون نموذجا للشباب يدفعهم نحو العلم والتعلم ونيل الشهادات والدرجات العالية حتى ينفعوا جاليتهم والمجتمع الذي يعيشون في كنفه، فالحياة بلا علم كجثة بلا جسد، ونعم قول الأديب العراقي الشيخ عبد الزهراء العاتي (1926-1985م) في قصيدة له أنشدها في العام 1966 في جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف:
قالوا وقولهم في النفس يرتسم
نعم الحياة حياة خطها القلم
ويزيدني عجبا عندما يعتبر البعض عدم تحصيل العلم وتجديد القراءة والمعرفة وزيادة المخزون العلمي، كرامة، وهذا ما سمعته في العام 1981م من احد الخطباء الراحلين، في مدينة العلم والعلماء مدينة قم المقدسة أيام الهجرة الثانية، فالخطيب ولكي يعبر عن كبير شكره لله سبحانه وتعالى، وعظيم امتنانه للإمام الحسين (ع) قال للجمهور وكنت واحدا منهم (!): إن من كرامات المنبر الحسيني أنني ومنذ عشرين عاما لم أتصفح كتابا واحدا، ومع هذا فإنكم كما تعلمون أن لي مجالس يومية وشهرية وسنوية!
يا ترى هل يمكن لهذا الخطيب وأمثاله من المربين، أن يشكل نموذجا حسنا للشباب في مسيرتهم العلمية؟ وهل بمقدوره أن يدفع بهم نحو مدارج العلوم، وهل تخرج الكلمات من القلب حتى تجد طريقها إلى قلب الشاب؟، وهو يعتبر الجمود العلمي والركود المعرفي والعزوف عن مواكبة تطورات الحياة كرامة، واجترار الكلام موهبة شخصية ومنحة إلهية؟!
فمثل هذا الخطيب لا يقدم ثقافة معاصرة، ولذلك يعزف الشباب في المهاجر الغربية عن حضور مجالس الخطابة بخاصة الناطقة بالعربية، ويكثرون الحضور في مجالس الخطيب الشاب غير المعمم، لإحساسهم بقربه منهم، وإدراك الخطيب لمساحة آمالهم ودائرة آلامهم وقطر أحلامهم، ويتفهم ما ينفعهم في حياة الغرب التي لم تعد لكثيرين منهم بلد الغربة كما هي عند الآباء.
وبشكل عام، فان الضياع الذي نلحظه عند قطاعات من الشباب مرده إلى الثقافة التي تعرضها أماكن التقاء العوائل والأسر المهاجرة، فهي لا تستطيع أن تلبي طموحات الشباب، أو أن القائمين عليها لا يملكون من التحصيل العلمي ما يجعلهم نموذجا علميا صالحا للشباب، أو أن البعض لا تأخذه الغيرة على الأبناء لتلمس طريق العلم، ففي حين لا نعدم وجود آباء غير متعلمين أو أن الهجرة حرمتهم من نيل الدرجات العلمية يدفعون بأبنائهم نحو العلم كتعبير داخلي عن رغبة لعدم تكرار مأساة الآباء، في الوقت نفسه نجد آباءاً يقدمون لأبنائهم سلوكا مغلوطا يشجع الأبناء على عدم إكمال الدراسة الأكاديمية والتحايل على القانون أو الاستئناس بما تقدمه دوائر المعونة الاجتماعية. فهؤلاء الآباء إنما يورثون لأبنائهم البطالة المقنعة والنموذج السيئ في التعامل مع الحياة، وربما انجر بعضهم إلى سوق الرذيلة.
من جانب آخر، يخطأ البعض من الآباء، عندما يستعمل سلاح الضغط لاختيار نوع الدراسة الجامعية لابنه، خلافا لرغبة الإبن في إنجاز دراسته في مجال آخر، وقد أثبتت التجربة أن الضغوطات غير المرعية لقدرات الإبن أتت بنتائج عكسية وبعضها وخيمة.
فالعلم وسيلة وفّرتها الدوائر العلمية في الغرب لكل إنسان، ومن أحسن الاستفادة منها له ولأبنائه نفعته هجرته، ومن أعرض عنها صفحا، كانت هجرته منقوصة الفائدة، وواقع العراق اليوم يحكي عن هذه المعاناة، فعدد غير قليل من المهاجرين العائدين إلى العراق بعد سقوط نظام صدام في 9/4/2003م، لم يسعفهم ضآلة تعليمهم في تولي مناصب إدارية في الدوائر الحكومية والشركات الأهلية رغم سنوات الجهاد والنضال لنيل الحرية، مع أن البعض من هؤلاء كان بإمكانه مواصلة دراسته الجامعية والأكاديمية، لكن من حافظ على طهارة معارضته عضَّ على الأنامل ورضي بنصيبه، والبعض الآخر راح يبحث عن شهادة من هنا وهناك، والبعض الآخر راح يحث الخطى رغم ثقل العمر في إكمال الدراسات العليا، وهذا أمر حسن، لأن العلم يطلب من المهد إلى اللحد، والعمر ليس حاجزا، وأبواب العلم في بلاد الهجرة مشرعة، والخير كل الخير فيمن وعى المأثور: (أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد). (مجلة المهجر اللندنية- عدد 50).
alrayalakhar@hotmail.co.uk
*إعلامي وباحث عراقي
د. نضير الخزرجي*
لا يطلب الإنسان الهجرة لذاتها، وإلا أصبحت هروبا من واقع، وإنما تتعدد الدوافع والبواعث المشروعة، ولهجرة مواطني الشرق الأوسط بعامة والعراقيين بخاصة، إلى أوروبا واستراليا وأميركا والدول الإسكندنافية أسباب كثيرة، تقف على رأسها الاستبداد، وعدم قدرة السلطة الحاكمة التعايش مع معارضة سلمية فتستخدم الإرهاب، ما يدفع الرافض للظلم إلى البحث عن موطئ قدم يستطيع فيه ممارسة حرياته على المستويات كافة، العبادية والحياتية والسياسية والإقتصادية، بعيدا عن أعين الاستبداد.
وليست الهجرة بالأمر الهين، وإن تبدو لمن لم يتذوق حنظلها، أنها العسل المصفى، فهي معاناة وآلام ومتاعب مادية ونفسية وروحية، بخاصة وان المهاجر لم يستقل حافلة أو طائرة كأي مسافر مطمئن البال يغادر بلده إلى آخر على أمل العودة ضمن مدة محددة، فهي رحلة مجهولة العواقب غير مضمونة النتائج، فكم من المهاجرين من ابتلعتهم أمواج البحر على سواحل اندونيسيا وماليزيا واستراليا والمغرب واسبانيا، وكان من بينهم الكثير من العراقيين أطفالاً ونساءاً وشيوخا وشبابا.
وحتى لو استقر المقام بالمهاجر، فانه يظل حبيس الغربة، التي ما بعدها غربة حتى وإن طالت الأعوام، ولاسيما لمن لا يقدر على زيارة بلده ثانية لمطاردة الأجهزة الأمنية له، وتترك الهجرة تأثيرها السلبي على الجيل الثاني، أي جيل الأبناء الذين تنقطع بهم السبل عن ثقافة الأم، ولا يبقى منها إلا البيت الأسري والجمعيات والمراكز والمساجد والحسينيات والمدارس، والأخيرة لا تستطيع أن تستوعب العدد الكثير من المهاجرين وبخاصة لدى الجالية العراقية التي تعد من الجاليات الكبيرة في بلدان المهجر.
ولكن رغم المشاكل التي يكتوي بنارها الآباء، ولا يكاد الأبناء يتلمسونها عن قرب، فان هناك من الأبواب المفتّحة للأبناء ما يعجز الآباء عن فتح مغاليقها حتى وان عاشوا في بلدانهم بأمن وأمان وبحبوحة من العيش، وواحدة من أبواب الأمل، هي الدراسة وإمكان نيل الشهادات العلمية والدراسات العليا بيسر، حيث تعتبر الشهادة سلاح الشاب الذي يود الانطلاق في هذه الحياة القائمة على المنافسة الشديدة، فمن يريد أن يضمن لحياته مستقبلا رغيدا ما عليه في الأعم الأغلب إلا أن يضمن لنفسه شهادة جامعية، وإلا فان حياته ستسير وهي في مقتبلها على طريق غير مستوية، وفي كثير من الأحيان لا تقوده إلى مبتغاه وطموحه.
فالشهادة الجامعية بالنسبة للجيل الجديد، نعمة ما بعدها نعمة، لا يدرك أهميتها إلا من قادته قدماه إلى مراكز البحث عن العمل ومراكز المعونة الاجتماعية سعيا خلف معونة أسبوعية لا تكاد تكفي لأيام بعدد أصابع اليد الواحدة، وهي لا تليق بشاب مفتول العضلات منفتح على آمال عريضة وطموحات لا حد لها لبناء حياته وتأسيس كيان أسري، وقد دلت التجربة أن أية أسرة مهاجرة، متعففة كانت أو غنية تفكر ألف مرة قبل أن توافق على تزويج ابنتها لعاطل عن العمل، أو لا يحمل شهادة جامعية تعينه على مصاعب الحياة.
والشهادة الجامعية قد لا تفيد المهاجر الذي مضّ به العمر، لان الشركات والمؤسسات الغربية تنتقي الطاقة الشابة المتسلحة بالدرجة العلمية والتجربة، ولكنها على قدر كبير من الأهمية للجيل الشاب، ترفع عن كاهله الشيء الكثير، وتضعه على السكة السليمة. ولو فكر الأب قليلا لاكتشف أهميتها، ففي البلدان الأم، يصرف الآباء كل شيء من اجل إرسال أبنائهم في بعثات دراسية للحصول على شهادات علمية في الجامعات الغربية، بل ويحمل بعض الآباء أو أكثرهم ديونا من اجل مصلحة ابنه المبتعث، لكن بعض الآباء في بلاد المهجر يرفس هذه النعمة برجليه، ويستغشي عقله بثياب الجهل واللامبالاة، فيترك ابنه وشأنه ولا يشجعه على إنهاء الدراسة الجامعية.
والأسباب كثيرة، ولكن القاسم المشترك في جميعها جدب الثقافة وخواؤها، فالآباء من هذه الشاكلة هم ضحية الثقافة التي يتلقونها في المحافل التي اعتادوا حضورها، والأبناء ضحية آباء لا يدركون قيمة العلم والتعلم، بخاصة في بلد قائم على العلم والشهادة، فعلى سبيل المثال، لم ألحظ وأنا في المملكة المتحدة منذ عقدين، أن خطيبا تحدث عن أهمية الشهادة الأكاديمية إلا نادراً، فربما لافتقاره إليها يجعله يغض الطرف عن مثل الحديث لشعور غير مبرر بالنقص، ولكنه والحال هذه يظلم الجيل الجديد، فعلمه الحوزوي زينة، وعدم امتلاكه لشهادة جامعية أكاديمية حديثة لا يقلل من شأنه، بل إن الخطيب المملوء علما وفقها هو زينة المجالس، وإذا ألحقها بشهادة أكاديمية من قبل أو بعد زاد في الخير خيرين، ومثل هذا الخطيب يكون نموذجا للشباب يدفعهم نحو العلم والتعلم ونيل الشهادات والدرجات العالية حتى ينفعوا جاليتهم والمجتمع الذي يعيشون في كنفه، فالحياة بلا علم كجثة بلا جسد، ونعم قول الأديب العراقي الشيخ عبد الزهراء العاتي (1926-1985م) في قصيدة له أنشدها في العام 1966 في جمعية الرابطة الأدبية في النجف الأشرف:
قالوا وقولهم في النفس يرتسم
نعم الحياة حياة خطها القلم
ويزيدني عجبا عندما يعتبر البعض عدم تحصيل العلم وتجديد القراءة والمعرفة وزيادة المخزون العلمي، كرامة، وهذا ما سمعته في العام 1981م من احد الخطباء الراحلين، في مدينة العلم والعلماء مدينة قم المقدسة أيام الهجرة الثانية، فالخطيب ولكي يعبر عن كبير شكره لله سبحانه وتعالى، وعظيم امتنانه للإمام الحسين (ع) قال للجمهور وكنت واحدا منهم (!): إن من كرامات المنبر الحسيني أنني ومنذ عشرين عاما لم أتصفح كتابا واحدا، ومع هذا فإنكم كما تعلمون أن لي مجالس يومية وشهرية وسنوية!
يا ترى هل يمكن لهذا الخطيب وأمثاله من المربين، أن يشكل نموذجا حسنا للشباب في مسيرتهم العلمية؟ وهل بمقدوره أن يدفع بهم نحو مدارج العلوم، وهل تخرج الكلمات من القلب حتى تجد طريقها إلى قلب الشاب؟، وهو يعتبر الجمود العلمي والركود المعرفي والعزوف عن مواكبة تطورات الحياة كرامة، واجترار الكلام موهبة شخصية ومنحة إلهية؟!
فمثل هذا الخطيب لا يقدم ثقافة معاصرة، ولذلك يعزف الشباب في المهاجر الغربية عن حضور مجالس الخطابة بخاصة الناطقة بالعربية، ويكثرون الحضور في مجالس الخطيب الشاب غير المعمم، لإحساسهم بقربه منهم، وإدراك الخطيب لمساحة آمالهم ودائرة آلامهم وقطر أحلامهم، ويتفهم ما ينفعهم في حياة الغرب التي لم تعد لكثيرين منهم بلد الغربة كما هي عند الآباء.
وبشكل عام، فان الضياع الذي نلحظه عند قطاعات من الشباب مرده إلى الثقافة التي تعرضها أماكن التقاء العوائل والأسر المهاجرة، فهي لا تستطيع أن تلبي طموحات الشباب، أو أن القائمين عليها لا يملكون من التحصيل العلمي ما يجعلهم نموذجا علميا صالحا للشباب، أو أن البعض لا تأخذه الغيرة على الأبناء لتلمس طريق العلم، ففي حين لا نعدم وجود آباء غير متعلمين أو أن الهجرة حرمتهم من نيل الدرجات العلمية يدفعون بأبنائهم نحو العلم كتعبير داخلي عن رغبة لعدم تكرار مأساة الآباء، في الوقت نفسه نجد آباءاً يقدمون لأبنائهم سلوكا مغلوطا يشجع الأبناء على عدم إكمال الدراسة الأكاديمية والتحايل على القانون أو الاستئناس بما تقدمه دوائر المعونة الاجتماعية. فهؤلاء الآباء إنما يورثون لأبنائهم البطالة المقنعة والنموذج السيئ في التعامل مع الحياة، وربما انجر بعضهم إلى سوق الرذيلة.
من جانب آخر، يخطأ البعض من الآباء، عندما يستعمل سلاح الضغط لاختيار نوع الدراسة الجامعية لابنه، خلافا لرغبة الإبن في إنجاز دراسته في مجال آخر، وقد أثبتت التجربة أن الضغوطات غير المرعية لقدرات الإبن أتت بنتائج عكسية وبعضها وخيمة.
فالعلم وسيلة وفّرتها الدوائر العلمية في الغرب لكل إنسان، ومن أحسن الاستفادة منها له ولأبنائه نفعته هجرته، ومن أعرض عنها صفحا، كانت هجرته منقوصة الفائدة، وواقع العراق اليوم يحكي عن هذه المعاناة، فعدد غير قليل من المهاجرين العائدين إلى العراق بعد سقوط نظام صدام في 9/4/2003م، لم يسعفهم ضآلة تعليمهم في تولي مناصب إدارية في الدوائر الحكومية والشركات الأهلية رغم سنوات الجهاد والنضال لنيل الحرية، مع أن البعض من هؤلاء كان بإمكانه مواصلة دراسته الجامعية والأكاديمية، لكن من حافظ على طهارة معارضته عضَّ على الأنامل ورضي بنصيبه، والبعض الآخر راح يبحث عن شهادة من هنا وهناك، والبعض الآخر راح يحث الخطى رغم ثقل العمر في إكمال الدراسات العليا، وهذا أمر حسن، لأن العلم يطلب من المهد إلى اللحد، والعمر ليس حاجزا، وأبواب العلم في بلاد الهجرة مشرعة، والخير كل الخير فيمن وعى المأثور: (أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد). (مجلة المهجر اللندنية- عدد 50).
alrayalakhar@hotmail.co.uk
*إعلامي وباحث عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق