من وَحْي العمود
داود الرحماني .. شاعر
أحاديث شفويّـة هوعنوان العمود اليومي الدسْم الذي يكتبه الأديب أحمد المهنّـا مسؤول التحرير في جريدة الصباح الجديد في الصفحة الأخيرة يتناول من خلاله شتى المواضيع السياسية والثقافية والاجتماعية.. يثريها تحليلاً وَرأياً ممَيّزاً. وفي عدد الأربعاء 2009/10/21 تطرق الأستاذ المهنّـا الى الحرفية في الآداب والفنون ثم الى الموهبة والثقافة باعتبارهما أهم أداتين فاعلتين في إثراء الإبداع... وأستقطِعُ جزأً ممّا كتبه في ذلك..يقول المهنّا نصّاً:- لم أقع على تعريفٍ لمعنى كلمة إبداع ولم أجهد نفسي في محاولةٍ للإمساك بجملةٍ تحدّه بين هلالين. لكنني بالجملة أعتقد بصحة رأي (عمّانوئيل كانْتْ) بأن الإبداع أمر يخص الآداب والفنون.فالإبداع نتاج أشخاص خصّـوا بالموهبة تساعدهم الثقافة على تطويرها وإنضاجها ولكن الموهبة هي الأساس..انتهى. وجدت في موضوع الأستاذ المهنّـا حافزاً لمجاراته في جانب مما بحث فيه وبما يخص الشعر كونه أهم اختصاصاتي..أقول :- انه في احدى أماسي بغداد الخريفية المنعشة و في مجلس آل الشعرباف كنت مكلّفاً بإلقاء محاضرة أمسية الخميس 2001/10/18 وكانت بعنوان ( لا شيئ يُـخلَق من عدم ) تحدثت فيها عن تجربتي في الشعر وبحوره وعن شعر العامية وأوزانه وفنونه وأسهبت في إعطاء الأمثلة والتعريفات ومنها ثمانية تعاريف للشعر لعددٍ من الأدباء والشعراء أردفتها بتعريفٍ للشعر من وجهة نظري بـبيتين من شعر العامية قلت فيهما :-
إلشِعِرْ فَن وْ سَـليقه وْ مَـوهِـبه
والتـحَـسّـسْ والفِـكِـرْ هُـوَّ الأسـاسْ
صنْعه يِصبَحْ من تعَـمْـقِ التجربه
والفراهيدي.. فَـصِلْ.. حَـدّ.. وْ قِيـا سْ
بعد انتهاء المحاضرة والإستراحة القصيرة بدأ المايكرفون يدور على المتداخلين من الحضور الذي كان كثيفاً ومتخماً بنخبة من الأساتذة على اختلاف مشاربهم ومن الجنسين .. تداخَـلتُ مع المتداخلين شاكراً لهم إضافاتهم وملاحظاتهم القيّمة وشكرت كل من طَرِبَ وأطرى...كانت الدكتورة نسرين فخري أستاذة اللغة (جامعة بغداد) من بين الحضور وقد انحسرت مداخلتها في الإعتراض على جزء من تعريفي للشعر في البيتين الآنفين حيث قالت :- تعريفك للشعر كان موفّقاً إلاّ في قولك أن الشعر يصبح صنعة فلم أقع يوماً على ما يؤيد ذلك ولا حتى في نماذج التعاريف التي ذكرتها؟.. دوّنت مداخلة الأستاذة مع بقية المداخلات ثم عدت اليها حين أدركها الدور في الإجابة (وهذا هو السياق في المجالس والندوات) فأجبتها ممتـنّاً بما يلي :- ان لفضة ( الصنعة) التي جاءت في تعريفي للشعر كنت أقصد بها (الحرفة) ولهما ذات المعنى في لهجة العوام, أما الحرفيّـة فلا تعني المصنعيّة في الفصيحة .. فالأولى من الإحنراف تحديداً والثانية من الصناعة تعميماً .. وانتقال الشاعر الى مرحلة الاحتراف امراً طبيعيّاً لا ضير فيه ولا من مؤاخذة عليه, فالشاعر الذي ينظم قصيدة في ساعة واحدة هو ذلك الشاعر نفسه الذي ينظم قصيدة أخرى يعايشها أياماً وليالٍ طوال يقضيها في التأمل وانتقاء البحر والقافية والألفاظ المناسِبة للمناسَبة ويغنيها تنقيحاً ولا يَطلق سراحها إلاّ بعد اقتناعه (هو) بأنها أدركت الغاية والكمال وأصابت الهدف...هنا يكمن ما نطلق عليه صفة الإحتراف .. فالقصيـدة من النوع الأول غالباً ما تظهر (لا بل تقـفز) كردّ فعلٍ لموقفٍ أو حدثٍ مؤثّرٍ مفاجئٍ (محزنٍ كان أم مفرحٍ) أو لعشقٍ طارئٍ أو لغيرها, وغالباً ما تكون قصيرة.. أما النوع الثاني فهي جملة القصائد الأخرى التي تنظم لأغراضٍ محدّدةٍ, أو لاستذكار أحداث سالفة أو لازالت سارية المفعول, أو تلك التي لها (أو ليست لها) مواعيد محددة وغالباً ما تكون من (المطوّلات) لوفرة الوقت المتاح للنظم.
قادتني مداخلـة الدكتورة نسرين الى التوسع فيما لم يسعفني الوقت المحدد للمحاضرة من الولوج فيه وهو الموهبة ثم العوامل المساعدة على الابداع, فأتيت عليها وضمنتها مداخلاتي مع بقية المتداخلين.. فقلت :- ألموهبة توجَد وتولد مع الانسان (وإن لم تكن ملموسة كالرأس والجذع والأطراف) ولا تُخلق تباعاً كباقي العوامل التي تخضع لتعدد وتنوّع المحطات والظروف التي يمر بها عبر حياته فيسخّرها لخدمة موهبته ليرتفع بها الى طبقة الإبداع. فالإنسان أيضاً خالِـق! والدليل على ذلك قوله تعالى ( والله خير الخالقين) ولم يقل خير الواجدين , فالإيجاد هو شيئ يظهر من العدم وتلك قدرة اختص بها الواجد الأوحد جلّ جلاله. أما الخلق فهو إظهار شيئ من شيئ آخر موجود أو مخلوق أصلاً, فالإنسان قادر على الخلق... و ان جميع الاختراعات وما توصلت إليه البشرية من تقدم علميٍ وحضاريٍ ما هي إلاً خلق.. ولم تكن إيجاد. ولابد لي من مرورٍ سريعٍ على جملة العوامل المساعدة على الابداع في الآداب والفنون.. ولا شك في أن الثقافة ( ودعوني أطلق عليها.. الثقافات) هي العامل الأهم والأعم والأبرز تأثيراً في الابداع (إيجاباً بغزارتها.. وسلباً بشحّـتها). وإليكم ما أظنه أهم مقوّماتها :-
(1) التحصيل الدراسي وتعدد الاختصاصات (2) الإلمام بعلم الاختصاص (3) المطالعة والحفظ والبحث (4) سني التجربة والممارسة والإنتاج (5) المشاركة في الندوات والمهرجانات والمناسبات (6) الانحدار الطبقي (7) البيئة وتنوعها (8) الإطّلاع والاستطلاع من خلال السفر والتجوال (9) المهن التي امتهنها أو عايشها الشخص.
وهنالك عوامل أخرى (غير الموهبة وتعدد الثقافات) يؤثر (البعض) منها في الابداع إيجاباً (أو) سلباً. و أهمها :- (1) الذكاء بمقوّماته الثلاث (أ) قوة الذاكرة (ب) سعة الخيال وقابلية التصوّر (ج) قوة الملاحظة (2) حجم التـفرّغ (3) الاستقرار العائلي (4) الاستقرار المادي (5) الصحّـة.. و تلك ليست من المسلّمات فليس هنالك من مطلَقٍ في الصفة والوصف. فكم من شاعرٍ أميٍّ أو معدمٍ أو معوّقٍ أو مشرّدٍ أبدع في تصوير معاناته ومحيطه وقدم لنا العيون من القصائد الخالدات وإن كانت محدّدة الأغراض والصوَر بحدود محيطه أو معاناته أو ثقافاته.. ولضيق المسـاحة المتاحة أدرجت جملة تلك العوامل ( تفـقيطاً فقط ) كونها تحتاج (لوحدها) الى بحثٍ مكثّـفٍ مسندٍ بالأمثلة والأدلّة.. عسى ان أعود إلكيم قريباً لشرحها تفصيلاً. drahmani2004@yahoo.com
هناك تعليق واحد:
www.abirelshouq.com-
www.abirelshouq.com/vb
إرسال تعليق