زياد طارق جايد
في عام 1906في مدينه العمارة و بالتحديد في محله السريه ولد طفل في بيت عريق لكنه لم يعش طفولته كما يجب بسبب انشغال والده الصائغ الفنان –زهرون مله خضر- بمسؤوليات كبيرة فقد كان مختار الطائفة الصابئه المندائيين , يمثلها في الدوائر الرسمية و يرعى مصالحها و يحل مشاكلها بيته مفتوح لكل أرمله و مطلقه محتاجة ، و كان رب اسرة مركبه قوامها ثلاث زوجات مع الأطفال و الأخوان و الأخوات و الأقارب ، و بسبب تلك المشاغل لم يبق لديه الوقت الكافي للرعاية المباشرة فتركت للأمهات .
في هذا البيت المركب الكبير و في حضرة ام متدينة حنوك اختطف منها الموت اكثر من مولود، ولد طفل أسمته (حسين ) تيمنناً حتى يعيش و عاش و نشأ حساسا نبيها و ذكيا جدا دخل المدرسة و تركها في الصف الثاني الابتدائي لاسباب خاصة ، و في الثامنة من عمره بدأ يعتمد على نفسه و شرع بالجلوس على عتبة الدار و اخذ يرسم وجوه المارة و الأصدقاء فعرف بين أهله و أتقرانه بالرسام و بدأت موهبته بالظهور فاثارت انتباه والده و أعمامه و ذاع صيته و حضي بمعامله خاصة و دخل عالم النقش على الذهب و الفضة صغيرا ذلك العالم الذي اختصت به عائلته و برعت و خاصة والده زهرون فاعتمد عليه والده و أشركه في نقش التحف و الهدايا التي تقدم للملوك و الشخصيات البارزة على نطاق الدولة و العالم و لقب – بحسني – تحببا فمنذ ذلك الوقت اختص بنقش الصور الشخصية و ظل ينقشها كهاوِ و ليس كمحترف او تاجر لانه ينقش كل صورة كأنها الاولى و الاخيرة يؤديها بنفس الصبر و الأناة و الدقة و كان يقول كل صورة هي امتحان جديد لان الوجوه كثيرة و مختلفة و قمة سعادته عند ظهورها بالشكل الذي يرضيه .
حسني الإنسان – كان صادق الأيمان يحمل قلبا نقيا صافيا يفيض حبا و عطفا على كل المحيطين به فهو نعم الأب و الجد و الصديق ، كان وسيما نظيفا باسم الوجه أبدا حليما متسامحا كريما لا يرد محتاجا كم اسقط ديونا دون ذكر أصحابها لانه يكره التباهي ، قنوع عف اللسان ، يكره المجامله و الكرم الزائف .
من ابرز صفاته الكتمان و الصبر على الشدائد و الدليل ذلك السر الذي لا يعرفه الا اقرب المقربين ، و هو ان الفنان و النقاش المشهور لا يعرف كيف يصنع سبيكة ذهبيه و لا كيف يصوغ حلقه ذهبيه بسيطة ، كل عدته أقلام النقش و حجر المس يحملها في جيبه أحيانا عند تنقله بين العمارة و البصرة و بغداد حيث محلات إخوانه و أعمامه و أخيرا استقر في العمارة للعمل مع أخيه جبوري و ابن عمته عبد سلوم و قد صاغت أناملهم أروع التحف الفضية و الذهبية و كم تهافت الناس على اقتنائها ، ثم شارك ابن عمه الصائغ ابراهيم رشيد في محل صياغة في شارع بغداد و بقى شريكا حتى عام 1954 ثم انفصل و قرر ان لا يشارك أحدا و بقي في البيت لمده سنه بلا محل و لا عمل و كان حينها رب اسرة مكونه من عشره أفراد . فرح حساده و هم كثر لغيابه عن الساحة الذهبية و توقعوا ان يموت النقاش الماهر و عائلته جوعا لانه ليس ممن يكنزن المال بل يعمل على قدر حاجته و كانت تلك الفترة خير دليل على صبره .
بدأت محاولاته الاولى لاكتشاف عالم الصياغة المجهول بالنسبة له و هو في الثانيه و الخمسين من عمره دون مرشد و كان يجد غضاضة بل مرارة بالاستعانة باحد و هو لا يعرف أسرار المهنة في تنقيه الذهب و عمل سبيكة قابله للطرق دون تكسرها و لا يعرف كيف يلحم ، بقي يحاول و بعد عشرات المرات بل المئات افلح في تحقيق مراده و فرح بنجاحه و كأنه المكتشف الأول للصياغة و بدأ يصوغ و يا لروعة ما صاغ .
استأجر لاول مرة محلا خاصا به في العمارة في شارع بغداد و أصبحت التحف التي يصوغها لا تجارى و خاصة الاساور و القلائد المطعمة بالميناء السوداء و الصور الشخصية المنقوشة على الذهب و صارت كل فتاة عمارية تشترط على خطيبها صورة من صياغته تتباهى و تتبارك بها و هكذا أصبحت تحفه زينه و خير خزينه و لا يمكننا ان نحصي عدد الصور التي نقشها لعامه الناس والشخصيات البارزه و قد وصلت تحفه الى الدول العربية و الأجنبية و قد قصده الكثير من الزوار لمشاهده التحف و كيف يصوغها .
احب هذا الفنان الطبيعة بل قدسها و خاصة مدينه العمارة الحالمة بأحضان دجله الخالد و أطلق مقولته المشهورة – بلم بشط العمارة تسوى باريس كلها – بعد عودته من سفرة قام بها الى فرنسا للاشتراك في معرض باريس الدولي في الثلاثينيات القرن الماضي و حاول مدير المعرض إغرائه للبقاء في باريس . و هكذا عاد الفنان لارض أجداده و أهله لينعم بدفء حضن مدينه العمارة و أهلها الطيبين تلك المدينة الهادئة الغافية على ضفاف دجلة الخير و استمر بالتعبد و الصلاة صباح مساء على الشاطئ الحبيب بعد الوضوء بالمياه النقية الطاهرة الجارية على مر العصور .
ثقافته شخصيه بحتة . فبعد ترك الصف الثاني الابتدائي تعلم القرائه و الكتابه باللغة العربية و المندائيه و اللانكليزيه من الممارسة و الاحتكاك بالمتعلمين دون مدرسه او معهد احب العلم و المطالعة و من اعز أصدقائه ، السيد عبد الرحيم الرحماني – صاحب اشهر مكتبه في العمارة – مكتبه الرحماني – و قد واظب على شراء مجلة الهلال و قراءتها من الغلاف الى الغلاف و اكن يحب إشراك العائلة بالقصص و المواضيع الطبية و العلمية .
من هواياته لعب الشطرنج و قد تفوق على مدير معارف العمارة الأستاذ – سيد حسن الجواد – في لعبه شطرنج رغب بها المدير تحديا لانه كان امهر لاعب في العمارة.
عاش متدينا صادق الأيمان اخذ من الدين جوهره ، تصرف طول حياته بنكران ذات و بكرم و إباء فاعطى نضره انه من أصحاب الملايين لقناعته و رضاه و الحقيقة انه توفي في بغداد بتاريخ 8/8/1982 – و كانت كل ثروته – صدق او لا تصدق – خمسه عشر ألف دينار لا غير و معها كنز من السمعة الطيبة لا تصنعها مليارات الدنانير ، عاش و مات بلا جعجعة فارغة بل باسم نقش في ذاكرة الزمن بقلم من ماس .
هناك تعليق واحد:
كانت والدتي تزور احد محلات المجوهرات الراقيه في روما بايطاليا صيف سنة 1973 وكانت تلبس سوارا عريضا وغاية في الجمال بسبب النقوش الدقيقه التي عليه وحزامين من المينا الزرقاء تطوقه وهنا تقدم صاحب المحل وقال لها انا أعرف من صاغ لك هذا السوار لانه الوحيد القادر على ذلك يدويا وحينها تحدته فأجابها إنه حسني من العماره في العراق وكم كانت دهشتها ووالدي كذلك لأن السوار كان فعلا من عمل حسني (حوالي سنة 1956) عندما كنا نسكن مدينة العماره الحبيبه ... للأسف بعنا السوار خلال سنوات الحصار في التسعينات.
إرسال تعليق